الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة حوادث الزمان وتقليب أحوال الإنسان وتاريخ موت بعض المشهورين من الأعيان **
فيها أخذ ركب العراق اعترضته بنو هلال وقتلوا خلقاً. وبطل الحج إلا طائفة نجت ومضت مع أمير الركب الشريف أبي أحمد الموسوي والد الشريف المرتضى. وفيها توفي الحافظ أبو عبد الله: محمد بن الحارث بن أسد الخشني القيرواني مصنف " كتاب الاختلاف والافتراق " في مذهب مالك و " كتاب الفتيا " و " كتاب تاريخ الأندلس " و " كتاب تاريخ إفريقية " و " كتاب النسيب ". صاحب التصانيف وصاحب أبي إسحاق المروزي. تفقه به أهل البصرة.وفيها توفي أبو إسحاق المزكي النيسابوري قال الحاكم: هو شيخ نيسابور في عصره وكان من العباد المجتهدين المحاجين المنفقين على العلماء والفقراء وكان مثرياً متمولاً دفن بنيسابور. وفيها توفي الأمير الأديب الممدوح بمقصورة ابن دريد: إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن ميكائيل. وفيها توفي أبو جعفر البلخي الهندواني الذي كان من براعته في الفقه يقال له أبو حنيفة الصغير.توفي ببخارى وكان شيخ تلك الديار في زمانه. وفيها توفي ابن فضالة المحدث الأموي مولاهم الدمشقي. وفيها توفي حامل لواء الشعر بالأندلس أبو الحسن محمد بن هانىء الأزدي الأندلسي الشاعر المشهور. قيل: إنه من ولد يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي وقيل: بل هو من ولد أخيه روح وكان أبوه هانىء من قرية من قرى المهدية بإفريقية. وكان شاعراً أديباً فانتقل إلى الأندلس فولد بها محمد المذكور بمدينة أشبيلية ونشأ بها واشتغل وحصل له حظ وافر من الأدب وعمل الشعر فمهر فيه. وكان حافظاً أشعار العرب وأخبارهم واتصل بصاحب أشبيلية وحظي عنده. وكان منتهكاً للحرمات منهمكاً في اللذات متهماً بالعقائد الفلسفيات. ولى اشتهر عنه ذلك نقم عليه أهل أشبيلية وساءت المقالة في حق الملك بسببه واتهم بمذهبه أيضاً فأشار الملك عليه بالغيبة عن البلد مدة ينسى فيها خبره فانفصل عنها وعمره يومئذ سبعة وعشرون عاماً. وحديثه طويل وخلاصته أنه خرج فلقي جوهراً القائد مولى المنصور فامتدحه ولم يزل يرحل ويمتدح ولاة الأمر إلى أن نمي خبره إلى المعز أبي تميم معد بن المنصور العبيدي ما انتهى إليه بالغ في الإنعام عليه ثم توجه المعز إلى الديار المصرية كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى فشيعه ابن هانىء المذكور ورجع إلى المغرب لأخذ عياله والالتحاق به فتجهز وتبعه. فلما وصل إلى برقة أضافه شخص من أهلها فأقامه عنده أياماً في مجلس الأنس فيقال أنهم عربدوا عليه فقتلوه وقيل: خرج من تلك الدار وهو سكران فنام في الطريق وأصبح ميتاً ولم يعرف سبب موقه. وقيل أنه وجد في ساقية من سواقي برقة مخنوقاً بتكة سرواله وكان ذلك في بكرة يوم الأربعاء لسبع ليال بقين من رجب سنة اثنتين وستين وثلاث مائة وعمره ست وثلاثون سنة وقيل اثنتان وأربعون سنة رحمه الله هكذا قيده صاحب كتاب أخبار القيروان وأشار إلى أنه كان في صحبة المعز وهو مخالف لما ذكرته أولاً من تشيعه للمعز ورجوعه لأخذ عياله. ولما بلغ المعز وفاته بمصر أسف عليه كثيراً وقال: هذا الرجل كنانة جود إن تفاخر به شعراء المشرق فلم يقدر لنا ذلك. وله في معز عزيز المدائح هل من أعتقه عالج بيرين أم منهما بقر الحدوج العين ولمن ليالي باذ منا عهدها مذكر إلا أنهن شجون والمشرقات كأنهن كواكب والناعمات كأنهن غصون أومى لها المجان صفحة خده وبكى عليها اللؤلؤ المكنون قلت قوله: الحدوج المراد بالحدوج هنا جمع: حدج وهو مركب من مراكب النساء مثل المحفة. قال ابن خلكان: وديوانه كبير ولولا ما فيه من الغلو في المدح والإفراط المفضي إلى الكفر لكان من أحسن الدواوين. وليس للمغاربة من هو في طبقته لا من متقدميهم ولا متأخريهم بل هو أشعرهم على الإطلاق وهو عندهم كالمتنبي عند المشارقة وكانا متعاصرين وإن كان في المتنبي مع أبي تمام من الاختلاف ما فيه. قال: ويقال أن أبا العلاء المعري كان إذا سمع شعره يقول: ما أشبهه إلا برحى يطحن قروناً لأجل القعقعة في ألفاظه ويزعم أنه لا طائل تحت تلك الألفاظ. قال: ولعمري ما أنصفه في هذا المقال وما حمله على هذا إلا فرط تعصبه للمتنبي قال: وبالجملة فما كان إلا من المحسنين في النظم والله أعلم انتهى. وقال في أول ترجمته " أبو نواس الأندلسي " فكناه بكنية أبي نواس الحسن بن هانىء الحكمي العراقي وهذا محمد بن هانىء الأزدي الأندلسي فقد اتفقا في اسم الأبوين وهو هانىء وقد يتوهم من لا يدري التاريخ والنسب أنهما أخوان كما ذكر ذلك في بعض الناس فيما مضى متوهماً لاتفاق اسم الأبوين أو مقلداً متوهماً ولو اطلع على التاريخ لعلم بطلان ذلك فإن هذا المغربي توفي في سنة اثنتين وستين وثلاث مائة وذلك المشرقي توفي في سنة ست وتسعين ومائة فبينهما مائة وست وستون سنة والأخوان لا يتباعد ما بينهما هذا التباعد في مثل زمانهما هذا من حيث التاريخ. وأما من حيث النسب فلما ذكروا أن المغربي أزدي والمشرقي حكمي ولعل ابن هانىء المغربي المذكور وهو الذي وقع بينه وبين المتنبي ما يحكى من القصة العجيبة عنده وصوله إلى قابس لمدح صاحب الإفريقية. وقد ذكرتهما في آخر علم البديع من كتاب منهل المفهوم في شرح ألسنة العلوم فإن الشاعر الذي ذكروا أنه رد المتنبي عن ملاقاة صاحب الأندلس ومدحه بالجملة التي ذكرها داهية في المكر فإنه حكى أن المتنبي لما خيم بإزاء قصره في زي أمير في الحشمة والغلمان والخدم والخيل والأتباع والحشم فزع صاحب قابس من ذلك وسأل عنه فلما قيل له: إنه شاعر أتى ليمدحك كره ذلك وقال: أي شيء يرضي صاحب هذه الهيئة ويقنعه من الجائزة فقال شاعره أنا أرده عنك وغالب ظني أنهم قالوا إنه ابن هانىء فقال له.بأي وجه ترده عني. فقال: بوجه جميل فقال: افعل فأخذ شاة رديئة ولبس لباس بدوي وجعل يقود الشاة متوجهاً إلى جهة منزل المتنبي وهو في مخيم كأنه مخيم أمير فلما قرب منه قال: طرقوا إلى الأمير فصاروا يضحكون عليه ويتعجبون منه. فلما وصل إليه وهو يقود الشاة في تلك الهيئة التي اتصف هو وشاته بها ضحك منه هو ومن حوله وقال له: ما هذه الشاة قال: هذه جائزتي من الملك. قال: جائزة فال: نعم قال: جائزة علام ذا. قال: على مدحي له. فتعجب من ذلك وقال: عسى أن تكون جائزته على قدر مدحه ثم قال له: أسمعني مدحك له كيف قلت فيه قال: قلت: ضحك الزمان وكان قدماً عابساً لما فتحت يجد عزمك قايسا أنكحتها عذراء وما أمهرتها إلا فتى وصوارماً وفوارسا من كان بالسمر العوالي خاطباً جلبت له بيض الحصون عرائسا فتحير المتنبي عند سماع شعره وقال: أنا ما أقدر أقول مثل هذا الذي أجازك عليه بهذه الشاة فارتحل راجعاً من حيث جاء هكذا حكى لي بعض أهل الخير ممن له إلمام ومعرفة ببعض الشعراء من جهة المغرب أو ما يقرب منها بهذا اللفظ أو ما يقرب منه معناه. ولكن ما رأيت أحداً من المؤرخين ذكر للمتنبي دخولاً إلى بلاد المغرب. والله أعلم. فيها ظهر ما كان المطيع يستره من الفالج فثقل لسانه فدعا حاجب السلطان عز الدولة إلى خلع نفسه وتسليم الخلافه لولده الطائع لله ففعل ذلك وأتيت على خلعه قاضي القضاة. وفيها أقيمت الدعوة بالحرمين للمعز العبيدي وقطعت خطبة بني العباس ولم يحج ركب العراق لأنهم وصلوا إلى بعض الطريق فرأوا هلال ذي الحجة وأعلموا أن الماء معدوم قدامهم فعدلوا إلى مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فزاروا ثم رجعوا. وفيها توفي الحافظ أبو الحسين الشهيد محمد بن أحمد بن سهل الرملي سلخه صاحب مصر المعز وكان قد قال: لو كان معي عشرة أسهم لرميت الروم بسهم ورميت بني عبيد بتسعة فبلغت القائد جوهراً فلما ظفر به قرره فاعترف وأغلظ لهم فقتلوه وكان عابداً صالحاً زاهداً قوالاً بالحق. وفيها توفي الحافظ محدث الشام أبو العباس محمد بن موسى السمسار الدمشقي. وفيها توفي صاحب المعز العبيدي وقاضيه النعمان بن محمد المكنى بأبي حنيفة كان من أوعية العلم والفقه والدين والنقل على ما لا مزيد عليه كذا ذكر بعض المؤرخين وغير ذلك وذكر بعض المؤرخين أنه كان في غاية الفضل من أهل القرآن والعلم بمعانيه وعالماً بوجوه الفقه وعلم اختلاف الفقهاء واللغة والشعر والمعرفة بأيام الناس مع عقل وإنصاف وألف لأهل البيت من الكتب آلاف أوراق بأحسن تأليف وأملح أسجع وعمل في المناقب والمثالب كتاباً حسناً وله ردود على المخالفين لأبي حنيفة ومالك والشافعي وابن شريح وكتاب اختلاف الفقهاء ينتصر فيه لأهل البيت وقصيدة فقهية. وكان ملازماً صحبة المعز ووصل معه إلى الديار المصرية أول دخوله إليها من إفريقية ولما مات صلى عليه المعز.
فيها أو بعدها ظهرت العيارون واللصوص ببغداد واستفحل شرهم حتى ركبوا الخيل وتلقوا بالقواد وأخذوا الضريبة من الأسواق والدروب وعم البلاء وفيها قطعت خطبة الطائع لله ببغداد خمسين يوماً فلم يخطب لأحد لأجل شعث وقع بينه وبين عضد الدولة عند قدومه العراق فإن عضد الدولة قدم من شيراز فأعجبته مملكة العراق فاستمال الأمراء وجرت أمور يطول ذكرها. وفيها توفي الحافظ أبر بكر ابن السني الدينوري صاحب كتاب عمل اليوم والليلة رحل وكتب الكثير وروى عن النسائي وأبي حنيفة وطبقتهما وبينما هو يكتب وضع القلم ورفع يديه يدعو الله تعالى فمات. وفيها توفي المطيع لله الفضل بن المقتدر: جعفر بن المعتضد العباسي. والأمير جعفر بن علي بن أحمد بن حمدان الأندلسي كان شيخاً كثير العطاء مؤثراً لأهل العلم وفيه يقول الشاعر محمد بن هانىء الأندلسي: المدنقان من البرية كلها جسمي وطرف بابلي أجور والمشرقات النيرات ثلاثة الشمس والقمر المنير جعفر قلت وقوله هذا استقي من منهل الشاعر ويستدل بنجوم نظمه الزواهر في قوله: هو في آفاق الأسهار سائر ثلاثة تشرق الدنيا ببهجتها شمس الضحى وأبو إسحاق والقمر
فيها توفي الشيخ الكبير إسماعيل بن نجيد الإمام النيسابوري شيخ الصوفية بخراسان أنفق أمواله على الزهاد والعلماء وصحب الجنيد وأبا علي عثمان الحيري وسمع إبراهيم بن محمد البوشنجي وأبا مسلم الكجي وطبقتهما وكان صاحب أحوال ومناقب. وفيها توفي الحافظ أحد أركان الحديث أبو علي الماسرجسي رحل إلى العراق ومصر والشام. قال الحاكم: هو سفينة عصره في كثير الكتاب صنف المسند الكبير مذهباً معللاً جمع حديث الزهري جمعاً لم يسبق إليه وكان يحفظه مثل الماء. وصنف كتاباً على البخاري وآخر على مسلم.وفيها توفي الحافظ الكبير أبو أحمد عبد الله بن محمد بن القطان الجرجاني مصنف الكامل في الجرح. وفيها توفي الحاكم أبو عبيد الله وفي ست وستين عند السمعاني وفي ست وثلاثين عند الشيخ أبي إسحاق الشيرازي. وفيها توفي الإمام النحرير الفاضل الشهير المعروف بالقفال الكبير الشاشي الفقيه الشافعي إمام عصره بلا منازع وفريد دهره بلا مدافع صاحب المصنفات المفيدة والطريقة الحميدة. كان فقيهاً محدثاً أصولياً لغوياً شاعراً لم يكن بما وراء النهر للشافعيين مثله في وقته رحل إلى خراسان والعراق والحجاز والشام والثغور وأخذ الفقه عن ابن سريج وهو أول من صنف الجدل الحسن من الفقهاء وله كتاب في أصول الفقه وله شرح الرسالة وعنه انتشر مذهب الشافعي في بلاده روى عن أكابر من العلماء. منهم: الإمامان الكبيران محمد بن جرير الطبري وإمام الأئمة محمد بن خزيمة وأقرانهما وروى عنه جماعة من الكبار منهم: الحاكم وأبو عبد قلت وهذا القفال الشاشي المذكور قد يثبه على بعض الناس بقفال وشاشي آخرين وها أنا ذا أوضح ذلك أيضاً بالغاً مما أوضحت ذلك في نظيره في الثلاثة النحويين المسمين بالأخفش. اعلم أنهم ثلاثة قفال شاشي: وهو هذا وقد ذكرنا عن من أخذ ومن أخذ عنه وهو والد القاسم صاحب كتاب " التقريب " وقيل إنه صاحب " كتاب التقريب " لا ولده وللشك في ذلك يقال: قال صاحب التقريب وأبو حامد الغزالي قال في كتاب الرهن: لما ذكر صاحب التقريب قال: أبو القاسم فغلطوه في ذلك وقالوا: صوابه القاسم والتقريب المذكور قليل الوجود في أيدي الناس وهناك تقريب آخر يكثر وجوده في أيدي الناس وهو لسليم وبه تخرج فقهاء خراسان. والشاشي بشينين معجمتين بينهما ألف نسبة إلى الشاش مدينة وراء النهر سيحون - خرج منها جماعة من العلماء. وإذا علم أن القفال هو الشاشي فاعلم أن هناك قفالاً آخر شاشي وشاشياً غير قفال. وثلاثتهم يكنون بأبي بكر ويشترك اثنان منهم في اسمهما دون اسم أبيهما واثنان في اسم أبيهما. فالقفال غير الشاشي هو القفال المروزي وهو عبد الله بن أحمد وعنه أخذ القاضي حسين والشيخ أبو محمد الجويني وولده إمام الحرمين.وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في سنة سبع عشرة وأربع مائة. والشاشي غير القفال هو فخر الإسلام محمد بن أحمد مصنف المستظهري شيخ الشافعية في زمانه. تفقه على محمد بن بنان الكازروني ثم لزم الشيخ أبا إسحاق وابن الصباغ ببغداد وصنف وأفتى وولي تدريس النظامية ودفن عند الشيخ أبي إسحاق وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في سنة سبع وخمسمائة التي توفي فيها. فهذا الكلام فيهم قد أوضحته جداً حتى عن حد البيان تعدى. والقفال الشاشي المذكور في سنة خمس وستين وثلاثمائة المذكور صاحب وجه في المذهب وممن نبه على الخلاف في أن كتاب التقريب له أو لولده الإمام العجلي وشرح مشكلات الوجيز والوسيط ذكر ذلك في " كتاب التيمم ". قلت: وإنما بسطت الكلام في هذا وخرجت إلى الإسهاب الخارج عن مقصود الكتاب لاحتمال أنه اتفق عليه من يحتاج إليه من الفقهاء. ونسأل الله تعالى التوفيق وسلوك الطريق الصواب.وقال الحليمي: كان شيخنا القفال أعلم من لقيته من علماء عصره وفي وفاته اختلاف. وفيها توفي المعز لدين الله: أبو تميم معد بن المنصور إسماعيل بن القائم بن المهدي العبيدي صاحب المغرب والديار المصرية. ولما افتتح مولاه جوهر سجلماسة مع فاس وسعه إلى البحر المحيط وخطب له في بلاد المغرب وبلغه موت كافور الاخشيذي صاحب مصر جهز جوهر المذكور الجيوش والأموال قيل خمسمائة ألف دينار أنفقها على جميع قبائل المغرب حتى البربر فأخذ الديار المصرية وبنى مدينة القاهرة المغربية وكان مستظهراً للتشيع معظماً لحرمة الإسلام حليماً كريماً وقوراً حازماً سرياً يرجع إلى إنصاف مجرى الأمور على أحسن أحكامها. ولما كان منتصف شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وثلاث مائة وصلت البشارة بفتح الديار المصرية ودخول عساكره إليها وانتظام الحال بمصر والشام والحجاز وإقامة الدعوة له بهذه المواضع فسر بذلك سروراً عظيماً واستخلف على إفريقية وخرج متوجهاً إلى ديار مصر بأموال جليلة المقدار ورجاء عظيمة الأخطار فدخل الإسكندرية لست بقين من شعبان من سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وركب فيها ودخل الحمام. وقدم عليه قاضي مصر أبو طاهر وأعيان أهل البلاد وسلموا عليه وجلس لهم عند المنارة وخاطبهم بخطاب طويل يخبرهم أنه لم يرد فيه بدخول مصر لزيادة مملكته وللمال وإنما أراد إقامة الحج والجهاد وأن يختم عمره بالأعمال الصالحة ويعمل بما أمره به جده صلى الله عليه وآله وسلم. ووعظهم حتى بكى بعض الحاضرين وخلع على القاضي وبعض الجماعة وحملهم ثم ودعوه وانصرفوا. ورحل منها في أواخر شعبان ونزل يوم السبت ثاني شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة على جزيرة ساحل مصر فخرج إليه القائد جوهر وترجل عند لقائه وقبل الأرض بين يديه وأقام هناك ثلاثة أيام ثم رحل ودخل القاهرة ولم يدخل مصر وكانت قد زينت له وظنوا أنه يدخلها وأهل القاهرة لم يستعدوا للقائه لظنهم أنه يدخل مصر أو لا يدخلها ولما دخل القاهرة دخل القصر ثم دخل مجلساً منه وخر فيه ساجداً لله عز وجل ثم صلى فيه ركعتين وانصرف الناس عنه وفي يوم الجمعة لثالث عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة أربع وستين وثلاثمائة عزل المعز القائد جوهراً عن داود بن مصر وجباية أموالها ومما ينسب إلى المعز من الشعر: لله ما صنعت بنا تلك المحاجر أمضى وأقضى في النفوس من الحناجر ولقد تعبت بينكم تعب المهاجر في الهواجر وكانت ولادته بالمهدية يوم الاثنين حادي عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلاثمائة وتوفي يوم الجمعة الحادي عشر من شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة بالقاهرة المشهورة.
فيها حجت جميلة بنت الملك ناصر الدولة بن حمدان وصار حجها يضرب به المثل فإنها أغنت المجاورين وقيل كان معها أربعمائة كجاوة لا يدرى في أيها هي لكونهن كلهن في الحسن والزينة يشتبهن ونثرت على الكعبة لما دخلتها عشرة آلاف دينار. وفيها مات ملك القرامطة الحسن بن أحمد بن أبي سعيد القرمطي الذي استولى على أكثر الشام وهزم جيش المعز وقتل قائدهم جعفر بن فلاح وذهب إلى مصر وحاصرها شهراً قبل مجيء المعز وكان يظهر الطاعة للطائع لله وله شعر وفضيلة ولد بالأحساء ومات بالرملة. وفيها توفي ابن المرزبان أبو الحسن علي بن أحمد البغدادي الفقيه الشافعي كان فقيهاً ورعاً من جملة العلماء. أخذ الفقه عن أبي الحسن بن القطان وعنه أخذ الشيخ أبو حامد الأسفراييني أول قدومه بغداد. وحكي عنه أنه قال: ما أعلم أن لأحد علي مظلمة. ومفهومه أنه لم يغتب أحداً. إذ الغيبة من جملة المظالم. درس ببغداد وله وجه في المذهب الشافعي ومعنى المرزبان بكسر الراء وضم الزاي: صاحب الجد وهو لفظ فارسي في الأصل اسم من كان دون الملك. وفيها توفي المستنصر بالله أبو مروان صاحب الأندلس عبد الرحمن بن محمد الأموي المرواني. وكان مشغوفاً بجمع الكتب والنظر فيها بحيث أنه جمع منها ما لم يجمعه أحد قبله ولا بعده حتى ضاقت خزائنه. وفيها توفي القاضي الفقيه الفاضل أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني الشافعي. كان فقيهاً أديباً شاعراً ذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتاب " طبقات الفقهاء " وقال: له ديوان شعر وهو القائل: يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما من قصيدة له طويلة وذكره الثعالبي في كتاب يتيمة الدهر فقال: هو فرد الزمان ونادرة الفلك وإنسان حدقة العلم وقبة تاج الأدب وفارس عسكر الشرع مجمع خط ابن مقلة إلى نثر الجاحظ ونظم البحتري. وقد كان في صباه اقتبس من العلوم والأدب ما صار به في العلوم علماً وفي الكمال عالماً ومن شعره: وقال توصل بالخضوع إلى الغنى وما علموا أن الخضوع هو الفقر وبيني وبين الحال شبان حرما علي الغنى: نفس الأبية والفقر إذا قيل هذا اليسر أبصرت دونه مواقف خير من وقوفي بها الضرر وله في الصاحب بن عباد: ولا ذنب للأفكار أنت تركتها إذا احتشدت لم تنتفع باحتشادها سبقت بأفراد المعاني وألفت خواطرك الألفاظ بعد شرادها فإن نحن حاولنا اختراع بديعة حصلنا على مسروقها ومعادها وفي كل يوم للمكاره روعة لها في قلوب المكرمات وجيب تقسمت العلياء جسمك كله فمن أين للأسقام فيك نصيب إذا ألمت نفس الوزير تألمت لها أنفس تحيى بها وقلوب وله: ما تطعمت لذة العيش حتى صرت للبيت والكتاب جليسا ليس شيء أعز عندي من العلم فما أبتغي سواه أنيسا إنما الذل في مخالطة الناس فدعهم وعش عزيزا رئيسا قال ابن خلكان: وشعره كثير وطريقه سهل وله " كتاب الوساطة " بين المتنبي وخصومه أبان فيه من فضل عزيز وإطلاع كثير ومادة متوفرة. وفيها توفي الرجل الصالح المقرىء أبو الحسن محمد النيسابوري السراج. قال الحاكم: قل من رأيت أكثر اجتهاداً وعبادة منه. توفي يوم عاشوراء رحمه الله.
فها توقني الشيخ الكبير العارف بالله الشهير أبو القاسم النصرأباذي شيخ الصوفية والمحدثين في خراسان صحب الشبلي وأبا علي الروذباري وسمع ابن خزيمة وابن صاعد وكان صاحب فنون من الفقه والحديث والتاريخ وعلم سلوك الصوفية. وحج وجاور بمكة سنتين ومات بها قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت أبا القاسم النصرأباذي يقول: إذا بدا لك شيء من بوادي الحق فلا تلتفت معه إلى جنة ولا إلى نار فإذا رجعت عن تلك الحال فعظم ما عظمه الله تعالى.وقيل أن بعض الناس يجالس النسوان ويقول: أنا معصوم في رؤيتهن فقال: ما دامت الأشباح باقية فالأمر والنهي باق أو قال: باقيان والتحليل والتحريم مخاطب به. وقال: التصوف ملازمة الكتاب والسنة وترك الأهواء والبدع وتحريم حرمات المشايخ وروية أعذار الخلق والمداومة على الأوراد وترك ارتكاب الرخص والتأويلات.وفيها توفي معز الدولة الديلمي والغضنفر عمدة الدولة ابن الملك ناصر الدولة بن حمدان. وفيها توفي القاضي محمد بن عبد الرحمن المعروف بابن قريعة " بضم القاف وفتح الراء وسكون الياء المثناة من تحت وبعدها عين مهملة " البغدادي قاضي السندية " بكسر السين والدال المهملتين وسكون النون بينهما وتشديد الياء المثناة من تحت وبعدها هاء " وهي قرية بين بغداد والأنبار وينسب إليها سندواني ليحصل الفرق بين هذه النسبة والنسبة إلى بلاد السند المجاورة وقال ابن خلكان: وكان من أحد عجائب الدنيا في سرعة البداهة بالجواب في جميع ما يسأل عنه في أصح لفظ وأملح سجع وله مسائل وأجوبة مدونة في كتاب مشهور بأيدي الناس. وكان رؤساء ذلك العصر وفضلاؤه يلاعبونه ويكتبون إليه بالمسائل الغريبة المضحكة فيكتب الجواب من غير توقف ولا تلبث مطابقاً لما سألوه وكان الوزير أبو محمد المهلبي يغري به جماعة يضعون له من الأسئلة الهزلية على معان شتى من النوادر الظريفة ليجيب عنها بتلك الأجوبة. فمن ذلك ما كتبه إليه العباس بن المعلى الكاتب ما يقول القاضي وفقه الله تعالى في يهودي زنى بنصرانية فولدت ولداً جسمه للبشر ووجهه للبقر وقد قبض عليها فيما يرى القاضي فيهما فكتب جوابه بديهاً هذا من أعدل الشهود على الملاعين اليهود بأنهم أشربوا حب العجل في صدورهم حتى خرج من أيورهم وأرى أن يناط برأس اليهود رأس العجل ويصلب على عنق النصرانية الساق مع الرجل ويسحبا على الأرض وينادى عليهما: ظلمات بعضها فوق بعض والسلام. ولما قدم الصاحب بن عباد إلى بغداد حضر مجلس الوزير أبي محمد المهلبي وكان في المجلس القاضي أبو بكر المذكور فرأى من ظرفه وسرعة أجوبته مع لطافتها ما عظم تعجبه فكتب الصاحب إلى أبي الفضل بن العميد كتاباً يقول فيه: وكان في المجلس شيخ خفيف الروح يعرف بالقاضي ابن قريعة جاراني في مسائل خفتها يمنع من ذكرها إلا أني استظرفت من كلامه وقد سأله كهل بيطار بحضرة الوزير أبي محمد عن حد القفاء فقال: ما اشتمل عليه جربانك ومازحك فيه إخوانك وأدبك فيه سلطانك وباسطك فيه غلمانك فهذه حدود أربعة وجميع مسائله على هذا الأسلوب وقوله: جربانك " هو لفظ فارسي بضم الجيم والراء وتشديد الموحدة وبالنون بين الألف والكاف ": لينة الثوب وهي: الخرقة العريضة التي فوق القب تستر القفا. قال ابن خلكان: ولولا خوف الإطالة لذكرت جملة منها وقد سرد محمد بن شرف القيرواني الشاعر المشهور في كتابه الذي سقاه " أبكار الأفكار " عدة مسائل وجواباتها من هذه المسائل. وفيها توفى ابن قوطية محمد بن عمر الأندلسي. كان منا أعلم زمانه باللغة والعربية وكان مع ذلك حافظاً للحديث والفقه والخبر والنوادر راوياً للأشعار والآثار لا يلحق شاوه ولا يشق غباره روى عنه الشيوخ والكهول. وكان قد لقي مشايخ عصره بحضرة الأندلس وأخذ عنهم وصنف الكتب المفيدة في اللغة منها كتاب " تصاريف الأفعال " وهو الذي فتح هذا الباب فجاء من بعده ابن القطاع ولقد أعجز من يأتي بعده وفاق من تقدمه وكان مع هذه الفضائل من العباد النساك وكان جيد الشعر صحت الألفاظ واضح المعاني حسن المطالع والمقاطع إلا أنه ترك ذلك ورفضه. حكى الأديب الشاعر يحيى بن هذيل التميمي أنه توجه يوماً إلى ضيعة له بسفح جبل قرطبة وهي من بقاع الأرض الطيبة المونقة فصادف ابن القوطية المذكور صادراً عنها وكانت له أيضاً هناك ضيعة قال: فلما رآني خرج علي واستبشر بلقائي فقلت له على البداهة مداعباً له: من أين أقبلت يا من لا شبيه له ومن هو الشمس والدنيا له فلك قال فتبسم وأجاب بسرعة: من منزل يعجب النساك خلوته وفيه ستر على الفتاك إن فتكوا قال: فما تمالكت أن قبلت يده إذ كان شيخي ومجدته ودعوت له و " القوطية " " بضم القاف وسكون الواو وكسر الطاء المهملة وتشديد المثناة من تحت وبعدها هام " جدة جد نسبة إلى قوط بن حام بن نوح عليه السلام وقوط أبو السودان والهند والسند وكانت القوطية المذكورة وفدت إلى هشام بن عبد الملك في الشام متظلمة من عمها فتزوجها عيسى بن مزاحم وسافر بها إلى الأندلس. فيها توفي أبو سعيد الحسين بن عبيد الله. وقال بعضهم: ابن عبد الله بن المرزباني السيرافي النحوي كان من أعلم الناس بنحو البصريين وشرح كتاب سيبويه وأجاد فيه وشرح مقصورة ابن دريد وله تصانيف أخرى وتصدر لإقراء القراءات والنحو واللغة والفقه والفرائض والحساب والكلام والشعر والعروض والقوافي وكان نزهاً عفيفاً جميل السيرة حسن الأخلاق رأساً في النحو قرأ القراءات على ابن مجاهد واللغة على ابن دريد والنحو على ابن السراج. وكان ورعاً يأكل من النسخ وينسخ الكراس بعشرة دراهم لبراعة خطه. يذكر عنه الاعتزال ولم يظهر منه والله أعلم به وكان كثيراً ما ينشد في مجلسه. أسكن إلى سكن تسربه ذهب الزمان وأنت منفرد ترجو غداً وغدا كحاملة في الحي لا يدرون ما تلد وكان بينه وبين أبي الفرج صاحب الأغاني ما جرت به العادة من التنافس بين الفضلاء فعمل فيه أبو الفرج شعراً ذكره ابن خلكان كرهت ذكره: والسيرافي بكسر السين المهملة وسكون الياء المثناة من تحت وبعد الراء والألف فاء نسبة إلى مدينة سيراف. وفيها توفي الشيخ الزاهد العائد أبو أحمد محمد بن عيسى النيسابوري راوي صحيح مسلم وفيها توفي أبو الحسن محمد بن محمد النيسابوري الحافظ المقرىء العبد الصالح الصدوق. سمع بمصر والشام والعراق وخراسان وصنف في العلل والشيوخ والأبواب. قال الحاكم: صحبته نيفاً وعشرين سنة فما أعلم أن الملك كتب عليه خطيئة. وفيها وردت الدعوة العباسية على يد بعض أهل الدولة من العراقين حارب المصريين والتقى هو وجوهر العبيدي فانكسر جوهر وذهب إلى مصر وصادف العزيز صاحب مصر قد جاء في نجدته فرد معه فالتقاهم عسكر العراق فأخذوا مقدمه أسيراً ثم من عليه العزيز وأطلقه. وفيها توفي أبو طاهر محمد بن محمد بن نقية وزير عز الدولة بن بويه. وكان من جملة الرؤساء وأكابر الوزراء وأعيان الكرماء وكان قد حمل عز الدولة على محاربة ابن عمه عضد الدولة فالتقيا على الأهواز وكسر عز الدولة فنسب ذلك إلى رأيه ومشورته. وفي ذلك يقول أبو غسان الطبيب بالبصرة. أقام على الأهواز خمسين ليلة يدبر أمر الملك حتى تدمرا فدبر أمراً كان أوله عمى وأوسطه بلوى وآخره خسرا ولما قبض عليه سمل عينيه فلزم بيته ثم إنه طلبه بعد ذلك ورماه بين أرجل الفيلة فمات من ذلك ولم يزل مصلوباً إلى أن توفي عضد الدولة فأنزل عن الخشبة ودفن في موضعه فقال فيه أبو الحسن ابن الأنباري: لم يلحقوا بك عاراً إذا صلبت بلى بأؤا بمنك ثم استرجعوا ندما واتفقوا أنهم في فعلهم غلطوا وأنهم نصبوا من سؤدد علما فاسترجعوك وواروا منك طودعلا بدفنه دفنوا الأفضال والكرما لئن بليت لما تبلى بذاك ولا تنسى وكم هالك ينسى إذا قدما تقاسم الناس حسن الذكر فيك كما ما زال مالك بين الناس منقسما
|